(303-354هـ، 915-965م). أبو الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبدالصمد الجعْفي الكندي. سيد شعراء القرن الرابع الهجري ويعده البعض أكبر شعراء العربية، ومن أبرز شعراء العالم. ينتهي نسبه إلى كَهْلان من اليمن، وهي قبيلة عربية ذات فصاحة ولسن.
حياة
المتنبي
أسرته. ولد المتنبي سنة 303هـ في حي كندة بالكوفة وأرضعته امرأة علوية. لاتذكر كتب التاريخ شيئًا ذا بال عن أسرته، ولم يذكر المتنبي نفسه عن أسرته سوى جدته وكان يعدها أمّه إذ هي التي تولت تنشئته ورعايته. ويدل رثاؤه إياها على تعلقه بها وحبه لها. ولايحفظ التاريخ من أسرته سوى ابن واحد له يسمى ¸محسَّد·، على خلاف في زوجته أشامية هي أم عراقية. ولا تنبئ مصادر المتنبي إن كانت أسرته تصحبه في أسفاره أم لا، ولكن شعره ـ بوجه عام ـ يكاد ينفي اصطحابه الأسرة
.
وأرجح الأقوال أن أسرته كانت رقيقة الحال، وشهر والده بعيدان السقاء للدلالة على مهنته. ولعلّ رقة حال أسرته كانت دافعًا قويًا إلى تكسبه بالمدح وإثبات ذاته المتفوقة
.
نشأته. نشأ بالكوفة، وكان يختلف أول أمره في التعليم إلى كُتّاب فيه أولاد الأشراف من العلويين. وبدأ بتعلم العربية لغة وإعرابًا وشعرًا. وارتحل إلى البادية طلبًا لفصاحة القبائل العربية فاكتسب في مجالسها شيئًا من الفصاحة والبلاغة حين جالس الأعراب وشافههم. ولكن لم يطل به ذاك المقام فعزم سنة 320هـ على الرحيل إلى بغداد. وواصل مسار رحلته مصعدًا من بغداد إلى ديار ربيعة بين النهرين، ثم إلى الموصل ونصيبين ورأس عين. وانحدر بعد ذلك إلى بادية الشام، فقيل: ادعى النبوة وتبعه خلق كثير من البدو، فخرج إليه لولو أمير حمص فقبض عليه وسجنه، وتضاربت حول ذلك الروايات، ولكن الثابت أنه أودع السجن في سنة 321هـ. وكان مستخفًا بالسجن أول أمره، ولكن لمّا طال مقامه ولم يُطلق سراحه أرسل قصيدة يستعطف فيها الأمير الذي أودعه السجن. فخرج من السجن وقد لصق به لقب المتـنبي
.
شخصيته. وُصف المتنبي بأنه كان رجلاً ملء العين، تام الخلقة، لايخلو من جفاء وخشونة. وعرف بالجرأة والإقدام والبعد عن ضعف النفس وخورها. ولعلّ حياته الأولى في البادية كان لها أثر في صفاته وأخلاقه. ومن مشهور قوله خطابه لنفسه حاضًا إياها على الجرأة والمخاطرة
:
|
ردي حياض الردى يا نفس واتـَّركي
|
|
حياض خوف الردى للشاء والنَّعَم
|
أما بيته
:
|
الخيل والليل والبيداء تعرفني
|
|
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
|
فكان ولايزال من الأبيات السَّيارة
.
أدت حياة الفقر التي نشأ المتنبي عليها إلى اتخاذه الشعر حرفة يأكل بها الخبز. ويكشف شعره أبدًا إصراره في طلب الرزق
:
|
ضاق صدري وطال في طلب الرز
|
|
ق قيامي وقل عنه قعودي
|
أثر علمه وثقافته على شعره
يُظهر ديوان المتنبي فيضًا من المعارف المتنوعة المشارب. فشعره يبين عن شاعر عالم ومثقف ولكنه لم يكن ممن يتعمدون إثقال الشعر بهذه المعارف التي تُخرج الشعر عن عفو الخاطر ولمحات الإحساس. فالمتنبي كان كثير الدرس والاطلاع، شهر بارتياده دكاكين الوراقين وملازمته لها. كما لازم أشهر علماء عصره من اللغويين والأدباء كالزجَّاج وابن السرَّاج والأخفش الأصغر وابن دُريد وأبي علي الفارسي وجلس إلى نفطويه وابن درستويه. وأخذ عنهم جميعًا. وكان بجانب حفظه القرآن الكريم، قد أفاد فصاحة ولسنًا حين شافه الأعراب وجالسهم في البادية. وقد تنوعت ثقافته وشملت المجالات الآتية
:
اللغة. كان المتنبي مبرزًا في مجال اللغة، مكثرًا في نقلها، مطلعًا على غريبها وحوشيها. وأكثر استشهاده بكلام العرب نظمًا ونثرًا. قرأ عليه ابن العميد كتابه الذي جمعه في اللغة وكان يعجب من حفظه وغزير علمه. كما قرأ عليه أهل مصر كتاب المقصور والممدود لأبي العباس ابن ولاد فصححه وأخذ على مؤلفه بعض الغلطات. قيل إن كتبه بعد موته كانت تحمل ملاحظات نفيسة دونها بيده. وكان حريصًا على حمل مكتبته في أسفاره
.
ديــوآآنهُ
الديوان. يحوي ديوان
المتنبي خمسة آلاف وأربعمائة وتسعين بيتًا في إحصاء الواحدي. وقد رتب المتنبي ديوانه بنفسه، وقرأه تلاميذه عليه وتدارسوه معه. وما ظفر ديوان شاعر في القديم والحديث بما ظفر به ديوانه من العناية والشرح؛ فقد ذكر له صاحب كشف الظنون نيفًا وأربعين شرحًا؛ ومن شراحه تلميذه وصديقه ابن جني، ومنهم علي بن أحمد الواحدي والعكبري وأبو العلاء المعري الذي سمى شرحه معجز أحمد. ومنهم البرقوقي في العصر الحديث. ولم يحو ديوانه كل أشعاره؛ فعن ابن جني أنه أسقط من شعره الكثير وبقي ما تداوله الناس. ثم إنه أضاف شيئًا من شعر صباه إلى الديوان لـمَّا سأله بعض فضلاء أهل الأدب بمصر ذلك.
وقد عكف على ديوانه كثير من الأدباء والنقاد منذ حياته إلى يومنا هذا، ولذلك قال ابن رشيق في حقه: ¸إنه مالئ الدنيا وشاغل الناس· واختلف النقاد في حكمهم على شعره فانقسموا فريقين: الفريق الأول لايراه شيئًا ويتتبع سقطاته؛ فقد ذكر ابن خلدون أن شيوخه كانوا يعيبون شعر
المتنبي والمعري لعدم النسج على الأساليب العربية، فكان كلامهما كلامًا منظومًا. ومن هؤلاء أبوهلال العسكري صاحب الصناعتين وهو الذي يقول: ¸لا أعرف أحدًا يتبع العيوب فيأتيها غير مكترث غير المتنبي فإنه ضمَّن شعره جميع عيوب الكلام ما أعدمه شيئًا منها·. ومنهم الصاحب بن عباد في كتابه الكشف عن مساوئ المتنبي، والعميدي في كتابه الإبانة عن سرقات المتنبي وغيرهم. وأما الفريق الثاني فتصدى لهذه التهم، فدافع عن شعره، وفنه كالقاضي الجرجاني في كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه والثعالبي في يتيمة الدهر وغيرهما كثير.
وظلت حركة التأليف حول
المتنبي مزدهرة حتى العصر الحاضر. ودخل المستشرقون الحلبة وعنوا بالمتنبي وشعره فترجمو اجزاء منه
يمثل شعر
المتنبي عصره أصدق تمثيل بما فيه من قلاقل وثورات ومذاهب وآراء، فهو سجل تاريخي حافل وصادق لعصره. كما أن شعره صورة لحياته المضطربة، وفيه يتجلى طموحه وشهرته وعلمه ومجده وشجاعته. وتميَّز شعره في كل ذلك بقوة المعاني وبعد الأخيلة ورصانة الأسلوب وغنى الألفاظ وتدفق العاطفة.
وبناء القصيدة عنده محكم منطقي، وتأخذ قصيدته نمطين: إما التقديم للموضوع بالغزل الذي سار عليه الشعراء القدامى، وإما الشروع في موضوعه مباشرة، يبث بيتًا من الحكمة هنا وبيتًا هناك. ويختلف شعره في الكهولة عن شعره في الحداثة، وأجود شعره ما قاله في مدح سيف الدولة. ومن أصدق الأقوال التي نقدت شعر
المتنبي أن في شعره سرًا من أسرار العبقرية صعب التعليل. ومعاني المتنبي أروع ما تكون حين يأتي بحكم وأمثال مستمدة من تفاعل نفسه مع الحياة الاجتماعية تفاعلاً يحسن فيه المتنبي إدراك فلسفة الحياة، أو حين يصف المعارك ويصور البطولة، ويتغنى بالمجد والشجاعة والشرف. وتميل النفوس إلى هذه المعاني لأن في نفس كل إنسان ميلاً إلى تمجيد القوة
أُخذ على
المتنبي بعض الإبهام في المعاني والتكلف في التعبير عن الصورة، وقليل من الشذوذ اللغوي، ومع ذلك فإن شعر المتنبي في معانيه وأسلوبه ارتفع بصاحبه إلى أكبر شاعر عرفته العربية، وجعل منه أكثر الشعراء حكمة سائرة ومثلاً شرودًا يردده أبناء العربية في كل زمان ومكان.
أكثر شعر
المتنبي من المشهور الذي يتمثل به، وتحفل به مصنفات المختارات الأدبية. وبالرغم من ذلك فإن بعض قصائده بلغت من الشهرة حدًا بعيدًا، مثل قصيدته في وصف الحُمّى وفيها يقول:
"
أنا الغريق فما خوفي من البلل "
"
وفي عُنق الحسناء يُستحسن العقد "
|
"
مصائب قوم عند قوم فوائد "
|
|
"
ومن قَصَد البحر استقل السواقيا "
|
|
"
وخير جليس في الزمان كتاب
|
|